مجموعة من المقالات حول تجارب طلابي في التربية العملية
الاستاذ محمد أبو معيلق
التدريس الآمن في مقابل التعليم المغامر
"لن يكتشف بحار جديدة من لم يمتلك الشجاعة لفقدان الشاطيء"
أندريه جيد
تشكل مفهوم التدريس الآمن في وعيي تدريجيا، إلا أنه تبلور بشكله الحالي من خلال خبرتي مع "عائشة"..
تمتلك "عائشة" شخصية مستقلة، طورتها من خلال خبرة طويلة نسبيا لفتاة في مثل عمرها من خلال العمل التطوعي، وصقلتها بالاطلاع الواسع والبحث عن تجارب جديدة في الحياة، وتعمل كمتطوعة في مجال التوعية الصحية والتدريب على الاسعافات الأولية، حظها الحسن أنها تدربت مع معلمة ذات خبرة طويلة في مجال التعليم، استطاعت من خلالها أن تطور نمطا تعليميا محددا، كما تمكنت بجدارة خلال فترة قصيرة أن تعالج عيبا أساسيا في عائشة وهو تدني مستوى خبرتها اللغوية، وخلال شهر امتلكت عائشة أسلوبا لغويا سلسا وصحيحا إلى حد كبير.
إلا أنني خلال الزيارة التقويمية لم أشاهد عائشة، إنما شاهدت نسخة مكررة عن المعلمة، سمحتُ للمعلمة أن تحضر الدرس، وهو أمر لم أكن امانع فيه عامة، إلا أن قراري في تلك الحالة تحديدا كان خاطئا، حاولت تصحيحه من خلال منع المعلمة من توجيه عائشة خلال تقديمها للحصة، إلا أن الوقت كان قد تأخر لاصلاح ذلك، راحت عائشة تتبع خطوات الدرس كما هو بالمنهاج خطوة خطوة، وتنفذ الأنشطة المصاحبة تباعا، وبعد كل نشاط تنظر للمعلمة لتتأكد أنها تقوم بالعمل على الشكل الصحيح، كان حدسي يخبرني بضرورة اعادة الاختبار العملي لعائشة، إلا أنه ضغط برنامج الزيارات العملية منعني من اتخاذ هذا القرار، وعلى الرغم النقاش التفصيلي لتلك الملاحظات مع طالبتي، إلا أنني اعتقد أن عدم اعادة الزيارة التقويمية هو أيضا من أخطائي المهنية التي ارتكبتها في حق أحد طلابي.
تعد تلك حالة مثالية للطلاب والطالبات في التدريب العملي، أنهم يسمحون لشخصيتهم أن تتوارى أو تختفي خلف شخصية محددة سلفا مكونة من مجموعة من الصفات التي تشكل مفهوم "المعلم" بالنسبة لهم، وهي عادة صفات مكتسبة من خبرات قديمة إلا أن الدور الأكبر في تشكيلها للمعلمات المدربات، المسؤولات عن نقل المهارات الحرفية من إعداد الدروس والأهداف وكتابة الخطط وأشكال التقويم وما إلى ذلك، وغالبا ما تكون تلك الصورة المتكونة "متكلفة" أكثر جدية من اللازم وتفتقد للعفوية.
وفي المقابل كان لدي حالتين مختلفتين في اليومين التاليين، واحدة منهما ،أفنان، كانت تتدرب في مدرسة صغيرة الحجم ومع معلمة حديثة الخبرة نسبيا، مما سمح لها أن تطور أسلوبها الخاص كمعلمة، اعتمدت في الغالب على الأنشطة الجماعية، واستنتاج الطلاب للخبرات ونقلها إلى زملائهم من خلال أنشطة أو أوراق عمل مصممة بشكل جيد، بعد مقدمة تمثيلية عرضت من خلالها نموذج للسلوك السيء وسمحت للطالبات بانتقادها، قامت بتشكيل مجموعات وقدمت لكل مجموعة ورقة عمل لكل طالب على أن يقوموا بحلها جماعيا، قامت بإعادة تشكيل المجموعات مرة أخرى بشكل مخطط سابقا، ليقوم كل طالب بنقل الخبرة التي استفادها من مجموعته الأولى إلى مجموعته الجديدة، وبالنهاية طلبت من كل طالب أن يقوم بعرض ما تعلمه من زميله، سمح لها صغر حجم الصف في الانتهاء من العمل في الوقت المحدد.
اعترضت بالطبع على تقديمها لنموذج سلبي، لأن الأطفال يتعلمون من مشاهدتنا أكثر مما نقدمهم لهم من إرشادات، وكان من الأفضل لو استخدمت دمية مثلا تقوم بالسلوك غير المحبب، وهو ما يشعر الطلاب بحرية أكثر في انتقاده، وبشكل عام على الرغم من روعة طريقة المستخدمة وانخراط الطلاب تماما في العمل، إلا أنها كانت جافة بالنسبة لأطفال في الصف الثاني، بمعنى أنها تخلو من المرح أو اللعب، كما أن تعزيزها للأطفال لم يكن على مستوى المهمة التي قاموا بها.
أما الحالة الثانية، يسرى، فلم تستطع خلال فترة التدريب أن تمارس طريقة خاصة في التدريس، نظرا لمعارضة المعلمة المدربة لأساليب التعلم النشط، نفس الذرائع التقليدية ضغط المنهاج وطول الدروس وقصر الوقت المتاح و.....و......، لذلك استغلت الزيارة التقويمية لتقدم الدرس وفقا لطريقتها الخاصة، قسمت الطلاب إلى أربع مجموعات كبيرة وطلبت أن يقوم كل منهم بجمع معلومات حول أحد فصول السنة، وأن يقوم فريقه بتوجيه أسئلة مختلفة حول هذا الفصل ويقوم بالإجابة عليها أمام كل الطلاب، بعد ذلك قامت بإعادة تقسيمهم إلى مجموعات أصغر، وطلبت من كل مجموعة أن تقوم باختيار الفصل المحبب لهم من فصول السنة، ورسمه على لوحة كرتونية، ثم تقوم تختار كل مجموعة طالبة بعد ذلك لعرض اللوحة أمام باقي الطلاب، وتلقي الملاحظات والأسئلة حولها، طبعا الطريقة رائعة والحصة كانت ممتعة تماما والتقطت عشرات الصور الجذابة لعمل الطالبات الرائعات.
استطاعت المتدربة أن تنفذ الجزء الأول بنجاح، إلا أنها كانت في ورطة حقيقية خلال الوقت المتبقي من الحصة، لم تستطع أن تدير العمل داخل المجموعات بكفاءة، بعض الطالبات استأثرت بالعمل، انسحاب بعض الطالبات، التنازع بين الطالبات حول الأحقية....وسائر المشكلات التي تصاحب الخطوة الأولى في إدارة التعلم ضمن مجموعات، كذلك كان الانتقال من عمل المجموعات إلى العروض مأساوي "وهو الجزء الأصعب غالبا في عمل المجموعات" فلم تستطع أن تجذب انتباه بعض الطالبات من استكمال لوحاتهن للالتفات لعروض زميلاتهن، وبصفة عامة لم تحسن تقدير الوقت اللازم لكل نشاط.
تمثل حالة عائشة ما أطلق عليه "التدريس الآمن" أو التدريس بدون أخطاء، أي أن يقوم المعلم باتباع طريقة محددة في التعليم هي ما تدرب عليه، وسرعان ما تتحول لتكون هي "كل ما يعرف أن يقوم به"، وبالتالي لم يعد من المدهش بالنسبة لي أن أجد معلم استمر لمدة عشرين سنة مثلا في تقديم الدروس بنفس الطريقة، واستخدام نفس الأنشطة والأمثلة والتطبيقات والوسائل، توفر طريقة التدريس الآمن للمعلم تجنب الوقوع في الأخطاء إلا أنه في المقابل تمنع عنه تعلم أي جديد، أو أي تطوير في أسلوبه، وهو ما ينعكس تلقائيا على شخصيته وأفكاره واتجاهاته، بل وحتى نمط ملابسه، التي تصاب تدريجيا بالجمود، ويتحول اليوم المدرسي ليصبح عبئا على المعلم أو المعلمة، لا ينتهي منه إلا وهو منهك تماما، وتصبح الأيام بالتالي كلها متشابهة، مما يصيب روحه بالسأم، أو ما نطلق عليه "الاحتراق المهني".
وفي المقابل، يقدم التعليم المغامر آفاق للمعلم للتطور المهني والشخصي المستمر، هو انتقال بالمعلم من حالة الفعل المعتاد والمألوف إلى الخبرة الجديدة، تجربة شيء لم أقم به من قبل، وملاحظة ذاتي قبل طلابي خلال هذه التجربة، الخطأ هو وارد حتما، ولكنه ذلك النوع الساحر من الأخطاء الذي سيكشف لنا الكثير مما لا نعرفه، سيضعنا في مواجهة الحقيقة الدائمة، أن خبراتنا ومهاراتنا محدودة ومن اللازم أن نعمل على تطويرها، وأثناء ذلك تتطور شخصياتنا، ونصبح أكثر انفتاحا على الأفكار والاتجاهات الجديدة التي تعيد تشكيل ذواتنا وأذواقنا.
ويتضح ذلك بالنسبة لي دائما من خلال النقاش الذي يعقب الدرس أو الحصة التقويمية، ففي الحالة الأولى، التدريس الآمن، يكون الطلاب بالأساس مرهقين، فقد مروا بخبرة نفسية ضاغطة، خضوعهم للمشاهدة والتقويم، ارتداء شخصية غير شخصيتنا أمر مرهق تماما، وبالتالي يلجأون للدفاع أثناء النقاش ويصعب عليهم استقبال ملاحظات أو انتقادات، لقد اتبعوا القواعد بحرفيتها، فأي شكل من النقد يمكن أن أقدم لآدائهم!، أنهم على ثقة أنهم قدموا "ما ينبغي" أن يقوموا به، في هذه الحالة ابدأ النقاش بالسؤال التالي "هل استمتعت بتقديم الدرس؟ هل تعتقد أن الطلاب استمتعوا به؟" الانطباع غالبا ما يكون الدهشة، المتعة! عماذا تتحدث بالضبط، لم يحدثني أحد عن ذلك، هل هذا واحد من معايير التقويم؟ لابد أن ابدأ من هز قناعاته فيما اعتقد أنه مثالي أو نموذجي.
أما في الحالة الثانية، بعد انتهاء الحصة، الاحظ أن الطالب أو الطالبة خفيف ومتحرر من الضغط، مرح وعينيه تشتعل بالإثارة، لقد مر بخبرة ممتعة، بعد الخمس دقائق الأولى توقف عن الشعور بي وانخرط تماما في عمله مع الطلاب (أتذكر أنني ناديت أحدى الطالبات لأخبرها بملاحظة أثناء الدرس إلا أنها تجاهلتني وانصرفت إلى أحدى المجموعات، بعد الحصة اعتذرت لي وقالت أنها لم تستطع أن تترك الطالبات لتستمع إلي، عموما كنت أنا المخطأ فتقديم الملاحظات أثناء الدرس ليس أمرا احترافيا تماما، لكن من منا كامل!)، عادة هم الذي يبادؤني بالأسئلة بل ويقودون الحديث، تفتتح الحديث بعبارة "لم يكن الدرس على المستوى الذي توقعته" ثم تردف بمرح "إلا أنني قد استمتعت تماما، واعتقد أن طلابي قضوا وقتا رائعا"، في هذه الحالة غالبا لست بحاجة إلى توجيه ملاحظات، فقط أقوم بمساعدة الطالب أو الطالبة على اكتشاف أين أخطأ، وكيف يمكنه التعديل في الدروس القادمة، لقد وضع قدمه على بداية الطريق الصحيح، وبالتأكيد سيواجه الكثير من العوائق في عمله كمعلم، يبقى التغلب عليها رهنا بقوة إيمانه بمعتقداته.
فارق أساسي أيضا بين التدريس الآمن والتعليم المغامر، في الحالة الأولى يقدم المعلم المنهاج لطلابه باعتباره سقفا لعملية التعلم، أما في الحالة الأخرى فيكون المنهاج هو الأرضية التي ينطلق منها المعلم وطلابه، لا يستطيع المعلم الآمن مغادرة المنصوص عليه في الكتاب المقرر ويشتق أهدافه من محتواه، ويركز على الخبرات الدراسية المباشرة المنصوص عليها في دليل المعلم، يلتزم بتعليماته والوسائل والأنشطة والتدريبات المقترحة، المعلم الآمن لا يجرؤ على مخالفة المنهاج، أما المعلم المغامر فيركز عادة على كل المتعلم، ويسعى لتطوير شخصيته ومهاراته العقلية من خلال موقف، يتعامل مع أشخاص لا مع أوراق، ولا يشكل الكتاب المقرر في هذه الحالة إلا وسيلة يستغلها لبناء أنشطة وتجارب معرفية واجتماعية لطلابه، يسعى من خلالها لتوفير تجارب يمكن من خلالها لطلابه اكتشاف الجديد عن نفسه والعالم.
إن المعلمين الرائعين بحاجة دوما إلى التجدد، تجربة طرق ووسائل جديدة، ربط المنهاج بموضوعات مختلفة، الإبحار في مشاريع ومخططات جديدة مع الطلاب، في ذلك تجديد لمهاراتهم ووجودهم ككل، كمعلم، وإنسان، لا تستسلم للركون للتقليد والروتين المتكرر والسأم، اجعل من كل درس مغامرة جديدة، ساعد نفسك على استكشاف مناطق متفردة، لا تستمع لكل الذين يقولون أن ذلك خطر أو غير ممكن أو ....أو، هناك دائما من جربوا طرقا جديدة واكتشفوا اخطائهم وعدلوها، واستفدنا كلنا من تجاربهم، كل ما يميزهم عنك هو إيمانهم بذاتهم وبقدرتهم على المغامرة.
من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسور
من شعر سلم بن عمرو بن حماد
👍لاتنسى الانضمام الى الجروب الخاص
بالدبلوم التأهيل التربوي - جامعة القدس المفتوحة
❤||| لا تنسى الانضمام الى المدونة بالضغط هنا |||❤
اذا لديك أي سؤال، فلا تتردد في الاتصال بنا.
For any kind of question, please feel free to contact us.
قصص وتجارب في التربية العملية،موقف تعليمي،شرح،اسئلة،جامعة،القدس،المفتوحة،اسئلة نصفية،اسئلة نهائية،ملخص،شروحات،توقعات،امتحانات،ملخصات،مواقف،تعليمية،خطط،دروس،تحضير،خطة دراسية،منهج تعليمي،
اطرح اي سؤال خاص بالموضوع في التعليقات